تأملات في الفكر السياسي السوداني!؟
السفير.د. معاوية التوم
ثمة حالة من الركود والكساد الفكري بأسباب مختلفة تسيطر على المشهد السوداني، ربما لتكاثر الخيبات والإحباطات التي خيمت بتداعياتها على واقعنا الماثل،والفرقة المصطنعة بين مكونات المجتمع. أخطرها هذه الحرب الوجودية على البلاد ارضا وشعبا ودولة. تستدعي أن نجتر الذاكرة الجمعية بإرثها الوافر ورصيدها الثر، وتنشيطها فيما ظل يخرج ويطرح من منتوج في القضايا الملحة التي تهم أمتنا ودولتنا، يصعب الاحاطة بها في مقال واحد، او بالتوقف على أسماء الأعلام والقامات الذين وشحوا بفكرهم صفحات انتمائنا وفضاءاتنا المتعددة في الاقليم وخارجه بسلسة قيمة من الكتب والدراسات والوثائق. أين كنا وما الذي أحاط بواقعنا والي أي وجهة نتجه، جملة من الاستفهامات تحتاج لشروحات ؟. هذا الرصيد الإنساني الضخم ينبيء عن عظمة المفكر السوداني وسهمه في إثراء ساحتنا السياسية بطروحات وأفكار بمدارس مختلفة. تتناول قضايا الداخل والاقليم والشأن العالمي فيما يلامس حاجتنا،تعالج التحديات الجمة التي واجهت ميلاد الدولة السودانية وتطوراتها وما تزال. ولكن ليس بالضرورة أن ما توافر من جهد على أهميته غطى أو كاد يغطي معالجات مطلوبات التطور الذي شهدته البلاد لما يربو عن السبعة عقود من الزمان.تحتاج للمراجعة والتجديد والمواكبة والاوضاع على أشدها، والبلاد تقاتل في جبهات مختلفة وتواجه أشرس المعارك والنضالات في تاريخها الحديث، تحتاج الي التوقف والتأمل فيما أحاط بنا من ابتلاءات متلاحقة، وتسترجع أبرز هذه التحديات ورصيدنا الفكري والواقع الذي نعيشه وما أصابه ما مقعدات. لأخذ العبر والعظات فيما نستشرفه من مستقبل في سياق الضغوط والجبهات المعلنة والمستترة، وما تستبطنه الأقدار من مفاجآت .جدير بالذكر أن
الفكر السياسي السوداني غنيٌ بتجارب متنوعة، تأثر بالتاريخ، والتعدد الثقافي، والصراعات الداخلية، والعوامل الإقليمية والدولية. يمكن النظر إليه من زوايا متعددة، منها تأثير الحركات الوطنية، والأنظمة السياسية المتعاقبة، والحركات المسلحة ودورات التمرد، ودور القوى الاجتماعية والثقافية في تشكيله. واحاول أن استعرض هنا أمهات القضايا التي تحيط بالمشهد السودان بتفاعلاتها وما تزال. وإليك بعض التأملات:
1. جدلية الهوية والتعددية
السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات، مما جعل الهوية السياسية مجالًا واسعا للصراع المستمر بين تيارات العروبة والأفريقانية، والإسلامية والعلمانية والمدارس التقليدية . فشل النخب السياسية في صياغة مشروع وطني جامع يلبي تطلعات غالب الشعب وأدى إلى أزمات متكررة.
2. تأثير الأنظمة العسكرية والمدنية
احدى أبرز دورات الحياة السياسية ودائرتها منذ الاستقلال عام 1956، تناوبت الأنظمة العسكرية والمدنية على الحكم، مما أدى إلى عدم استقرار سياسي. الأنظمة العسكرية (عبود، نميري، البشير . ثورة أبريل/ ديسمبر وحتي اليوم ) حكمت فترات طويلة، غالبًا بدعوى الاستقرار، لكنها واجهت مقاومة شعبية قادت إلى ثورات (أكتوبر 1964، أبريل 1985، ديسمبر 2018).
3. الأحزاب السياسية وتحديات الديمقراطية
الأحزاب السودانية لعبت دورًا محوريًا في السياسة، لكنها ظلت تعاني من الانقسامات والصراعات الداخلية، وكثيرًا ما غلبت المصالح الشخصية والطائفية على المصالح الوطنية وتكريس حالة تنافرية فيما بينها. ضعف المؤسسية الحزبية ساهم في هشاشة التجربة الديمقراطية.
4. الصراعات المسلحة والسلام
الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، التي انتهت بانفصال جنوب السودان 2011، ثم النزاعات في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، أبرزت إشكاليات العدالة والتنمية غير المتوازنة. الاتفاقيات مثل نيفاشا 2005 وجوبا 2020 حاولت تحقيق السلام، لكنها لم تعالج جذور المشكلة بالكامل ولا تزال تبارح مكانها.
5. الإسلام السياسي والعلمانية
التجربة السودانية شهدت صراعًا بين التيارات الإسلامية والعلمانية، والقوالب التقليدية، خاصة بعد انقلاب البشير 1989 وإقامة نظام إسلامي أيديولوجي. سقوطه عام 2019 أعاد النقاش حول علاقة الدين بالدولة، ولا يزال الجدل مستمرًا حول الدستور وهوية الدولة.
6. الثورات والتغيير السياسي
السودان من الدول القليلة التي شهدت أكثر من ثورة شعبية ناجحة ضد أنظمة عسكرية. انتفاضات 1964، 1985، و2018 أثبتت قدرة الشعب على تغيير الأنظمة، لكنها لم تؤدِ دائمًا إلى استقرار سياسي دائم، مما يطرح تساؤلات حول مدى نضج الوعي السياسي والتجربة الديمقراطية.
7. التدخلات الإقليمية والدولية
بسبب موقعه الجغرافي وثرواته، كان السودان مسرحًا لتدخلات خارجية من دول الجوار (مصر، إثيوبيا، تشاد) والقوى العالمية (أمريكا، الصين، روسيا). هذه التدخلات أثرت على الاستقرار الداخلي وساهمت في تشكيل تحالفات سياسية متغيرة.
8.الدستور الدائم للبلاد
احدى اكبر العقبات التي تلازم السياسة السودانية منذ فجر الاستقلال . وتأسيس دولة المؤسسات بايجاد دستور دائم للبلاد يشكل توافق الإرادة السياسية ويؤطر للحكم ودولة القانون.
ختامًا
هذه الحالة من التشظي والتباعد الفكري للعقل السياسي الجمعي، وسيكولوجية الشخصية السودانية، تعكس واقعا مأساويا، أشبه بالتكلس والشلل في اضافة أي جهد يخاطب هذه الانشغالات ويسفر عن حلول جمعية .بل يكرس لوضعية الأزمة الفكرية الوطنية ، ويغري بأعداء البلاد للاستثمار في هذا الواقع المرير والنفخ في تعقيداته. وإحاطته بالنذر والمهددات على نحو ما كشفت عنه حرب أبريل ٢٠٢٣م. ذات الهموم والقضايا تطل برأسها وتتجدد دورة تلو الأخرى، وترسم ذات الاسئلة من وكيف وأين ولماذا، دون اجابات قاطعة أو ملامح لمعالجات مستدامة تخاطب هذه المعضلات الأهم في حياتنا. أو تشيء بقرب فجر في الأفق لجعل ذلك ممكنا ، مما يعكس عطبا في مسيرة المعرفة والمنهج لمهابة هذه الركائز . وبالمقابل فان الحوار السياسي المبتسر ينعقد وينفض دون أن يصيب جوهر القضايا ولب المعالجات المطلوبة والترتيبات التوافقية وآلياتها ومواقيتها وأسس شراكة الحكم المستدام. الأمر الذي ينذر بشرور مستطيرة ويدعو لوقفة تأمل والجلوس لنبش خبايا هذه الظاهرة الأليمة وانعكاساتها على كافة الصعد.الفكر السياسي السوداني في حالة صراع دائم ومستمر بين الإرث التاريخي والتحديث، بين العسكر والمدنيين، بين الهويات المتعددة، وبين مصالح الداخل والخارج وتقاطع إراداته . ويبقى التحدي الأكبر هو بناء دولة وطنية تستوعب الجميع، وتحل معضلات الحكم والعدالة والتنمية المستدامة.