قرأءة في فشل بعثة فولكر بيرتس للسودان !؟
السفير.د.معاوية التوم
أما وقد طويت صحيفة هاتين البعثتين، عن المشهد السوداني الداخلي بخلفيات أليمة وبارادة سودانية. رأيت من الضرورة بمكان الاحاطة بسردية هذه المنظومة، ورفع الوعي الجمعي لما اكتنف بعثة يونتامس للبلاد ، بعيدا عن مآرب رئيسها وطموحه الشخصي، وما خفي عنها، وما خلفته من واقع مرير في تشبثها بالاتفاق الإطاري الذي قاد لحرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣٣. بعثتا يوناميد ويونتامس الدوليتين للتدخل في السودان تختلفان في السياق والأهداف والتكوين والقيد الزمني . فبعثة يوناميد كانت بعثة حفظ سلام عسكرية-أمنية في منطقة نزاع مسلح (يتصل بولايات دارفور) . وهي بعثة مختلطة بين الامم المتحدة والاتحاد الأفريقي تحت الفصل السابع، ذات طابع عسكري/ مع قوات حفظ سلام استمرّت لحوالي ١٣ عاما منذ العام ٢٠٠٧ ، وتمتد في الاثر الي ١٧ عاما بموجب ارتباطهما باتفاقيتي أبوجا والدوحة لدعم سلام دارفور، والتي هدفت لحماية المدنيين ، والأوضاع الإنسانية ومراقبة حقوق الإنسان . انتهت ولايتها في العام ٢٠٢٠. وتبقى منها فريق خبراء ما يزال يباشر مهامه ويقدم تقريره الدوري لمجلس الامن كل ٦ اشهر حتى تاريخه!؟. بينما بعثة يونتامس كانت بعثة مدنية سياسية غير مسلحة لكل السودان ،جاءت تحت الفصل السادس، بطلب من رئيس الوزراء المستقيل د عبد الله حمدوك، بحجة دعم الانتقال والتحول الديمقراطي في السودان بعد الثورة في ٢٠١٩. وقد واجهت تحديات سياسية كبيرة بعد خطى إصلاح المسار او ما يسمونه خصوم الدولة يومها في الحرية والتغيير بانقلاب (٢٥ اكتوبر ٢٠٢١) الذي قلص نفوذها وعرى مستورها، وفي فبراير ٢٠٢٣ قرر مجلس الأمن انهاء مهامها بطلب من حكومة السودان .
ولعل فشل بعثة يونتامس (UNITAMS) في تحقيق أهدافها في السودان يعود إلى جملة من الأسباب المعقدة والمتداخلة، تتعلق بالسياق السوداني الداخلي، وطبيعة البعثة نفسها، والعوامل الدولية. وهذه أبرز الأسباب:
1. السياق السياسي المعقد في السودان:
•إصلاح او تصحيح المسار او ما سمي لدى بعضهم (بالانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 ) الذي أنهى الشراكة المدنية-العسكرية، وأفشل ما يسمى بعملية الانتقال الديمقراطي التي كانت يونتامس معنية برعايتها ودعمها.
•انقسام القوى السياسية وعدم التوافق بين المكونين العسكري والمدني أضعف قدرة البعثة على لعب دور فعّال كوسيط أو ضامن للعملية السياسية.
•تزايد نفوذ القوى العسكرية والأمنية (القوات المسلحة السودانية (الجيش ) وقوات الدعم السريع التي تمردت في أبريل ٢٠٢٣ ) التي لم تكن ترى في يونتامس شريكًا محايدًا، بل أحيانًا خصمًا بخروجها على ولايتها وتفويضها. والنية المستبطنة بتحالف الدعم السريع والحرية والتغيير معها.
2. ضعف صلاحيات البعثة وهيكلها:
•بعثة سياسية غير مسلحة، تفتقر إلى وسائل ضغط ميداني أو دعم أمني، ما جعلها محدودة الأثر في بيئة أمنية متقلبة وطموحات مفتوحة فيما كشفت عنه الأيام لما يسمى بالمكون المدني والدعم السريع . ولكنها كانت ذات أثر بالغ في حالة الهشاشة السياسية و إلهاب الوضع الداخلي بحملات الإرباك والتشويش التي اعتمدتها.
•لم تكن مخولة بالتدخل المباشر أو فرض قرارات، بل اقتصرت على تقديم النصح والدعم الفني، ما قلّص من فعاليتها في لحظات الأزمات الكبرى.ولكنها كانت ذات ذيول مع أطراف دولية واقليمية فاعلة في صناعة البلبلة وعدم الاستقرار.
3. غياب الدعم الكامل من الحكومة السودانية:
•منذ تشكيلها، واجهت البعثة رفضًا أو تحفظًا من بعض الأطراف في الحكومة السودانية، خاصة من الجانب العسكري للتجاوزات الموثقة في التفويض لرئيسها ونائبته .
•في 2023، طلبت الحكومة رسميًا إنهاء مهام البعثة، ما دل على تآكل الثقة السياسية بها وفقدان الشرعية المحلية، وحفزها على عدم الاستقرار ومستقبل الحكم في البلاد. مما حمل فولكر على الاستقالة مكرها لحفظ ماء وجهه، وقد منحته الامم المتحدة وظيفة مؤقتة رئيسا لبعثة المراجعة الاستراتيجية بالعراق.
4. ضعف التنسيق الأممي والدولي:
•لم تحظ يونتامس بدعم إقليمي أو دولي فعال كافٍ للقيام بدورها. وكانت جهود المجتمع الدولي مجزأة، وغير قادرة على فرض رؤية موحدة، رغم انتظام تقاريرها بمجلس الامن لصناعة الواقع الذي كانت تعمل لأجله.
•تضارب المواقف الدولية بشأن الوضع في السودان أضعف قدرة البعثة على فرض أجندة واضحة أو التوسط بفعالية بين الأطراف، مما افقدها الحيادية والمهنية.
5. اندلاع الحرب في أبريل 2023:
•الحرب الشاملة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة قضت فعليًا على فرص الانتقال الديمقراطي، وجعلت عمل يونتامس غير ذي جدوى.اذ كان رئيسها آخر من التقي قائد الدعم السريع المتمرد حميدتي ووقف على خططه بنيالا والجنينة لاشعال فتنة الحرب.
•تصاعد القتال أجبر موظفي الأمم المتحدة على إخلاء مقارهم، وتجميد العمليات، وهو ما أنهى فعليًا وجود البعثة على الأرض، وقد كانت في البداية تراهن على البقاء وعدم الخروج.
خلاصة:
فشلت يونتامس بسبب:
•انهيار الانتقال السياسي بعد التصحيح أو انقلاب 2021.
•ضعف صلاحيات البعثة وهيكلها المدني.
•انعدام الثقة بينها وبين السلطات السودانية.
•إصرارها على مشروع أجنبيات يلبي تطلعات البلاد وشعبها.
. عجز المجتمع الدولي عن دعمها.
•اندلاع الحرب الشاملة والعدوان المفتوح من قبل قوات الدعم السريع المتمردة في 2023.
تحليل فشل يونتامس في دعم المسار الديمقراطي في السودان:
تحليل فشل بعثة يونتامس (UNITAMS) في دعم المسار الديمقراطي في السودان
تتبع مسار البعثة يُظهر أن هذا الفشل لم يكن مجرد قصور أممي، بل نتاج تفاعل معقد بين بيئة سياسية مضطربة، وبعثة ذات صلاحيات محدودة، وديناميكيات إقليمية ودولية غير مواتية. وصراع إرادات وتقاطع مصالح لدول كبرى، وطموحات إقليمية شاطحة تبتغي المزيد من تقطيع أوصال البلاد وتفكيك الجيش ووضعها الدولة برمتها على الحافة النارية التي هي عليها الان
أولًا: طبيعة البعثة وقدراتها المحدودة
•بعثة سياسية غير تنفيذية: لم تكن يونتامس بعثة حفظ سلام أو ذات تفويض قوي لفرض خارطة انتقال، بل بعثة استشارية تقدم الدعم الفني واللوجستي للعملية السياسية، بقيادة ذات ارتباطات معروفة تكيد للسودان أرضا وشعبا ودولة.
•الاعتماد على تعاون الأطراف السودانية: كانت فعالية البعثة مرهونة بقبول المكونين العسكري والمدني، وهذا التعاون انهار بعد تصحيح المسار او ما سمي لديهم انقلاب أكتوبر 2021
ثانيًا: التغيير العسكري وتبخر المسار الانتقالي
•إصلاح المسار او ما يسمونه انقلاب 25 أكتوبر 2021 شكّل نقطة الانهيار الكبرى، حيث أطاح بالشراكة المدنية-العسكرية، وجمّد الوثيقة الدستورية التي كانت أساس الانتقال. وأتي بما عرف بالاتفاق الإطاري، وكشف حقيقة النوايا الخفية لكل من الدعم السريع وحمدوك وارتباطاتهم بالإمارات والحرية والتغيير التي أضحت الان اكثر من فريق ووجهة.
•يونتامس عجزت عن تفكيك الجيش السوداني وعن استعادة المسار المدني، رغم محاولات الوساطة، لعدم وجود أدوات ضغط، ورفض المكون العسكري لأي حلول تضعف سلطته.
ثالثًا: ضعف القيادة السياسية المدنية:
•تشرذم القوى (المدنية) التي ظلت تحتكر الثورة والسلطة، وغياب جبهة موحدة، أضعف الطرف المدني الدعي وأفقده القدرة على التفاوض بقوة أو تشكيل بديل موثوق، ورفع من الوعي الجمعي السوداني بحقيقة هذا التحالف التآمري على البلاد.
•يونتامس لم تتمكن من توحيد الصفوف المدنية لغاية في نفسها، أو خلق توافق سياسي عريض، برفضها المبادرات الوطنية التي تجاوزت ال ٣٨ مبادرة ، وإصرارها على أجندة الخارج ومشروعه الأوحد، مما زاد من الفوضى السياسية والاضطرابات وعجل بنهايتها.
رابعًا: غياب الدعم الإقليمي والدولي الفعّال
•لم تحظ يونتامس بدعم قوي من الفاعلين الدوليين والإقليميين، بل ظهرت انقسامات بين قوى تدعم العسكر وأخرى تدعم المسار المدني. ومؤشرات فساد وتبديد للأموال التي رصدت واختلال عربة قيادة التحالف التي كشفت. في الخطط اللاحقة من حكومة موازية.
•الجامعة العربية، الاتحاد الإفريقي، ودول الجوار لعبت أدوارًا محيرة وضعيفة أو متحيزة، مما أضعف قدرة الأمم المتحدة على فرض تسوية، وكان الفساد المؤسساتي هو سيد المشهد في بعضها.
خامسًا: الانزلاق إلى الحرب المفتوحة :
•اندلاع القتال في أبريل 2023 بتدبير محكم من قبل قوات الدعم السريع المتمردة، كان بمثابة الشوكة القاصمة وقضى تمامًا على آمال الانتقال، وأغلق أي نافذة لتحرك يونتامس.
•الحرب التي كان يراد لها أن تكون حربا اهلية بامتياز من خلا تصريحات قادة التحالف ، شكّلت انهيارًا كاملًا للبنية السياسية التي كانت البعثة تستند إليها، وتحولت من بيئة انتقالية إلى بيئة نزاع مفتوح، وأعانت على افشال مشروع تفكيك الجيش الوطني وانحياز جميع التيارات الداخلية لنصرة القوات المسلحة.
خلاصة تحليلية:
•فشلت يونتامس لأنها دخلت إلى سياق غير مستقر وغير متفق عليه، بلا صلاحيات تنفيذية، ولا دعم سياسي موحد.
•لم تكن قادرة على تجاوز معضلة “من يدير الانتقال؟” بسبب الطابع الانقسامي للسلطة المدنية المدعاة وإعلانها لسقف الطموحات في السودان، ورفض المنظومة العسكرية بعد أن كشفت مستورها قاومتها بشراسة ومنعت أي انتقال وفق هذه الرؤية المتآمرة.
•تحول وظيفي مطلوب: كان يفترض بالبعثة أن تتحول إلى وسيط قوي متعدد الأطراف، أو أن يتم دعمها بإرادة دولية صارمة، تأخذ بالخيارات الوطنية ، والمشاغل الأممية في حدها الأدنى وهو ما لم يحدث، وانتهى بها المطاف الي فشل مستحق وفضيحة بمغامرة كبرى مدمرة، ونهاية تليق بالمقاصد والفعل . وقطعا هنالك ما ستكشف عنه الايام ، وما يزال بعضه حبيس الادراج والصدور عن أسرار هذه البعثة المشؤومة.
⸻
١٣ أبريل ٢٠٢٥م