قمة الناتو 2025 بين نيران أوكرانيا وشرارات إيران
السفير.د.معاوية التوم
مقدمة:
انعقدت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لعام 2025 في ظل ظرف دولي بالغ التعقيد، تتقاطع فيه نيران الحرب المستعرة في أوكرانيا مع الشرارات المتصاعدة من التوتر الإيراني–الإسرائيلي، وسط تزايد التحديات الأمنية العالمية وتراجع فاعلية النظام الدولي. وبينما يبحث الحلف عن سبل تعزيز ردعه الجماعي، تتباين أولويات أعضائه بين الشرق الأوروبي والشرق الأوسط، ما يضع القمة أمام اختبار استراتيجي حاسم: كيف يوازن الناتو بين ساحات الصراع المتداخلة دون أن يفقد بوصلته أو تماسكه؟
جاءت قمة الناتو في لاهاي (يونيو ٢٠٢٥) لترسم ملامح جديدة لمستقبل الأمن الجماعي الغربي، ولكن الحرب في أكرانيا والمواجهة مع إيران تصدرت جدول أعمال القمة وحملت رسائل مزدوجة:تهدئة في العلن، واستعداد متزايد للمواجهة في العمق.
أولًا: أوكرانيا – حرب استنزاف تفرض إيقاعها على الحلف وتراجع في سلم الأولويات؟
مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الرابع، بدا واضحًا أن الحسم العسكري لا يزال بعيد المنال.
• طُرحت في القمة تساؤلات جوهرية بشأن استدامة الدعم الغربي لكييف، في ظل تراجع الحماسة الشعبية والضغوط الاقتصادية في العديد من دول الحلف.
• تجدد الجدل بين معسكرين: أحدهما يدعو إلى توسيع نطاق الدعم العسكري الهجومي لأوكرانيا (بقيادة بولندا وبريطانيا ودول البلطيق)، وآخر يفضل احتواء الصراع وتفادي استفزاز روسيا (بقيادة ألمانيا وفرنسا).
• شهدت القمة كذلك تركيزًا متزايدًا على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
ثانيًا: إيران – خطر غير مباشر يتعاظم في مرمى النيران ام تصعيد محسوب؟
رغم أن إيران لا تُعد خصمًا مباشرًا للناتو، إلا أن سلوكها الإقليمي ونفوذها المتصاعد فرض نفسه على أجندة القمة:
• ازدياد المخاوف من اندلاع مواجهة شاملة في الشرق الأوسط على خلفية المواجهة الإيرانية–الإسرائيلية وتداعياتها على أمن الملاحة وموارد الطاقة. وهجوم ايران على قاعدة العديد الاميركية في قطر، يرى البعض بأنه يمكن ان يمتد لقواعد أوربية.
• تركيز خاص على التهديدات السيبرانية وهجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية،
التي باتت تمتد إلى عمق المصالح الغربية.
• دعوات لتعزيز التعاون الأمني مع شركاء الناتو في الخليج والبحر الأحمر، في ظل المخاوف من اتساع رقعة الاشتباك الإقليمي.
ثالثًا: التحديات الداخلية – بين الإرادة السياسية والتصدعات البنيوية
• تصاعد التيارات الشعبوية والانكفائية في بعض الدول الأعضاء يُقوّض الإجماع التقليدي داخل الحلف، خاصة في ظل الشكوك المتزايدة بشأن الدور الأمريكي المستقبلي.
• الانتخابات الأمريكية المرتقبة أعادت هاجس “ترامبية جديدة”، تهدد بعودة السياسات الأحادية وتقليص الالتزامات الخارجية.
• غياب الوضوح بشأن العدو المركزي للناتو (روسيا، إيران، الصين؟) فاقم من هشاشة الرؤية الاستراتيجية الجماعية.
رفع الإنفاق الي ٥٪ من الناتج المحلي بحلول ٢٠٣٥ وهو رقم غير مسبوق حتي في الحرب الباردة. وتراجع الرهان على الدبلوماسية التقليدية، وتبني متزايد لفكرة السلام بالقوة استجابة لضغوط ترامب ، وتقاعس الاوربيين عن تقاسم الأعباء . وخطر سباق التسليح لاجل حماية الحلف.
رابعًا: ملامح تحول استراتيجي في بنية الناتو، وهل الحلف متماسك؟
• ركزت مخرجات القمة على ضرورة الانتقال من نمط الحلف الدفاعي الكلاسيكي إلى نموذج أكثر مرونة وتعددية، يستجيب للتحديات العابرة للحدود.
• من أبرز المحاور الجديدة:
1. الحروب السيبرانية وحرب المعلومات كمجال ردع مركزي.
2. توسيع الشراكات الدولية، لاسيما مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
3. فرنسا والمانيا تميلان لاحتواء إيران بدلا من مواجهتها، وتركيا بين التعاون والابتزاز السياسي، البلطيق وبولندا يميلان للتوسع باتجاه الشرق
4. الدفع نحو تكامل الصناعات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على النظم الأمريكية.
خاتمة:
أظهرت قمة الناتو 2025 أن الحلف أمام مفترق طرق حقيقي. فهو يواجه تهديدات تقليدية وغير تقليدية، في بيئة دولية أقل استقرارًا وأكثر تعقيدًا.
بين نيران أوكرانيا وشرارات إيران، ارتفاع الإنفاق العسكري، وعودة عقيدة الردع تدخل العالم مرحلة اكثر خطورة تضيق معها الخيارات الدبلوماسية وتزداد حسابات القوة . بدأ الحلف وكأنه يقاتل وحدة في جبهات متعددة دون رؤية موحدة او خارطة طريق واضحة، وبين انقسامات داخلية وطموحات توسعية، يُطرح السؤال المصيري:
هل يستطيع الناتو إعادة تعريف دوره والبقاء قوة ردع فاعلة، أم أن القمة كانت مؤشراً على بداية إعادة تموضع عميقة في مسيرة الحلف؟ فهو امام لحظة تعريف وجودية او بحاجة إلى إعادة تعريف أولوياته وأدواته في ظل نظام دولي متغير.