الحرب الروسية الأوكرانية بين لعبة المحاور والاتفاق المنشود
السفير.د. معاوية البخاري
مقدمة:
منذ أن دوّت أصوات الانفجارات الأولى في أوكرانيا في فبراير 2022، أدرك العالم أن ما بدأ كعملية عسكرية محدودة قد تحول إلى زلزال جيوسياسي هز أركان النظام الدولي الذي تشكل عقب الحرب الباردة. أكثر من عامين مرا على الصراع، وما زالت الحرب تستعر، لكن أفق التسوية يظل ضبابيًا، في ظل تعقد لعبة المحاور الدولية، التي تجاوزت حدود كييف وموسكو إلى عواصم كبرى مثل واشنطن وبكين وأنقرة وبروكسل. ومع دخول أطراف جديدة على خط المواجهة. ومع تمدد أمد الحرب، يبرز سؤال حتمي: هل يمكن أن تنضج الظروف لاتفاق منشود يوقف النزيف ويعيد رسم خريطة التوازن الدولي؟
أولاً: الحرب كمرآة لصراع المحاور الكبرى
لم يعد خافيًا أن الحرب الأوكرانية خرجت عن نطاقها المحلي، لتصبح تجسيدًا لصراع بين محورين عالميين:
المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو
الغرب رأى في الحرب فرصة لتأكيد هيمنته، فاندفع لتسليح أوكرانيا ودعمها ماليًا ولوجستيًا بشكل غير مسبوق، مدفوعًا برغبة في استنزاف روسيا ومنعها من إعادة تشكيل حدود القوة في أوروبا. انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو عزز هذا المسار، فيما استخدمت واشنطن أدوات العقوبات الاقتصادية لمحاصرة موسكو.
المحور الشرقي بقيادة روسيا والصين
من جهتها، اعتبرت موسكو الحرب معركة وجودية ضد تمدد الناتو شرقًا، بينما رأت الصين في الصراع فرصة لتقويض النفوذ الأمريكي، دون الانخراط المباشر. ومع توسيع التعاون مع دول الجنوب العالمي، باتت موسكو وبكين تسعيان إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، في مواجهة هيمنة الغرب.
دور القوى الإقليمية
تركيا مثّلت حالة فريدة؛ فهي عضو في الناتو لكنها لعبت دور الوسيط عبر اتفاق الحبوب بين موسكو وكييف. أما دول الخليج، فحاولت التوازن بين مصالحها في الطاقة والتحالفات التقليدية، متمسكة بمساحة من الحياد البراغماتي.
ثانيًا: فاتورة حرب استنزاف مفتوحة
الأبعاد الإنسانية
أكثر من 10 ملايين أوكراني نزحوا داخليًا أو عبروا الحدود كلاجئين، بينما سقط عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، ودُمّرت مدن بأكملها، في مأساة إنسانية هي الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
الأبعاد الاقتصادية
العقوبات الغربية على روسيا أربكت الاقتصاد العالمي؛ أسعار الطاقة والغذاء قفزت، وسلاسل الإمداد تعطلت. أوروبا تكبدت خسائر هائلة، بينما وجدت موسكو أسواقًا بديلة في آسيا وأفريقيا لتصدير النفط والغاز.
الأبعاد الجيوسياسية
تزايدت حدة سباق التسلح في أوروبا، مع تسليح أوكرانيا بمعدات غربية متطورة، فيما وسعت روسيا تحالفاتها العسكرية والسياسية مع دول غير غربية، من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية.
ثالثًا: الاتفاق المنشود.. هل حان أوانه؟
مع طول أمد الحرب، يبرز السؤال الأهم: هل آن أوان الاتفاق؟ أم أن الأطراف ما تزال رهينة حسابات القوة؟
عوائق أمام التسوية
• إصرار كييف على استعادة كامل أراضيها بما فيها القرم.
• موقف موسكو الرافض لأي مساس بما تعتبره “حدودًا جديدة” بعد ضم مناطق أوكرانية.
• انعدام الثقة بين الغرب وروسيا، في ظل روايات متناقضة عن أسباب ومآلات الحرب.
فرص للتفاوض
• مبادرات تركية وصينية وأفريقية لإحياء الحوار.
• الإرهاق الذي بدأ يتسلل للأطراف المتحاربة بفعل التكاليف الباهظة.
• الضغوط الشعبية والاقتصادية في أوروبا وروسيا قد تدفع نحو هدنة أو تسوية جزئية.
السيناريوهات المحتملة
1. تجميد النزاع: كما حدث في كوريا الشمالية، مع بقاء خطوط التماس دون اتفاق سلام دائم.
2. اتفاق جزئي: يوقف إطلاق النار مع بقاء القضايا الكبرى عالقة.
3. حرب طويلة الأمد: استمرار الصراع كحرب استنزاف لعقد آخر، مع تدخلات محدودة الأطراف الأخرى.
خاتمة: هل تتغير قواعد اللعبة؟
الحرب الروسية الأوكرانية لم تعد فقط مسألة حدود أوكرانية أو أمن أوروبي، بل تحولت إلى حرب كونية بالوكالة يعاد عبرها رسم موازين القوى العالمية. وإذا كان صوت المدافع اليوم أعلى من أصوات الدبلوماسية، فإن تجربة التاريخ تقول إن كل الحروب تنتهي على طاولة المفاوضات، لكن السؤال هو: كم من الوقت والدماء سيتطلب الوصول إلى تلك الطاولة؟
هذا المقال محاولة لتقديم رؤية تحليلية للصراع من منظور أوسع، يربط بين المحلي والإقليمي والدولي، ويستشرف فرص التسوية وسط لعبة محاور لا تزال تتكشف فصولها. الحرب الروسية الأوكرانية لم تعد مجرد صراع على الأرض بين دولتين، بل تحولت إلى اختبار للنظام العالمي بأسره. وبين لعبة المحاور التي تشتد كل يوم، يبقى الاتفاق المنشود حلمًا مؤجلاً، يعتمد على إرادة سياسية قد لا تنضج إلا بعد استنزاف كافة الأطراف.
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.