ماهي حقيقة توقعات صندوق النقد الدولى لمعدل النمو
في الاقتصاد السوداني؟:
وجهة نظر اقتصادية.
بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم ابراهيم
نشر صندوق النقد الدولى خلال اليومين الماضيين توقعاته بشأن النمو الاقتصادي في السودان للعام الجاري والعام 2026. بدت هذه النتائج للكثييرين مخالفة لما كانوا يتوقعونه من نتائج سالبة بسبب تاثير الحرب على النمو. في هذا المقال سنتناول رؤيتنا من وجهة نظر اقتصادية تحليلية بسيطة مدى تناسبية هذه التوقعات وأسبابها.
. يقيس الناتج المحلي الإجمالي القيمة النقدية للسلع والخدمات النهائية المقسمة حسب القطاع (زراعي، صناعي نفط مصرفي اتصالات بناء وتشييد الخ..). التي يشتريها المستخدم النهائي المُنتجة في بلد ما خلال فترة زمنية محددة (سنة).كما يقاس أيضا عبر قيم الاستهلاك الفردي والاستثمارى والحكومي والصادرات من السلع المنتجه محليا. الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي يعكس قيمة جميع السلع والخدمات التي ينتجها اقتصاد ما في سنة معينة. ويُعبّر عنه بأسعار سنة الأساس (بمعني أن الناتج الحقيقي لا يتأثر بالتضخم فقط بمعدل الانتاج الحقيقي بسبب ثبات الأسعار عتد حساباته)، ويُشار إليه غالبًا باسم الناتج المحلي الإجمالي بسعر ثابت. يُضفي الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي مزيدًا من المغزى على مقارنة الناتج المحلي الإجمالي، إذ يُظهر مقارنات لكلٍّ من كمية وقيمة السلع والخدمات. يُحسب الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بقسمة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي على مُخفّض الناتج المحلي الإجمالي (متوسط الأسعار لكل القطاعات الانتاجية والخدمة). يشمل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي كلاً من مكوني الأسعار والانتاج مضروبة في بعضها البعض ، بينما يُمثل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا صافيًا. وهو ما كان سيبلغه الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لو لم تكن هناك تغيرات في الأسعار مقارنةً بسنة الأساس. ونتيجةً لذلك، يكون الناتج المحلي الإجمالي الاسمي أعلى من الناتج المحلي بالأسعار الجارية في كل عام.
المعلومة التي لا يعرفها أغلب الناس أن صندوق النقد الدولي لا يقوم بجمع معلومات حول جميع البيانات الاقتصادية لاي دولة بما في ذلك بيانات الناتج المحلي الاجمالي بنفسه بل يبني بياناته من تعديل الأرقام الرسمية للدولة بطريقة علمية. مراعية في ذلك بعض المعطيات التي تؤثر في هذه البيانات بالاضافة للعلاقات المثلي التي تربط بين المتغيرات الاقتصادية بما يقربها للواقع، علما بأن معدلات ثقة الصندوق في بيانات الدول المنشورة في التقارير الحكومية خاصة بيانات الدول النامية ضعيف لضعف آليات العمل الاحصائي وشمول البيانات واختلاف التعريفات . و من خلال متابعتي لتوقعات الصندوق أجد أنها أقرب للحقيقة من البيانات الحكومية، علما بأن الصندوق قد يغير من توقعاته بين الحين والآخر في حالة وجود مستجدات تأتي من تقارير بعثاته الدورية للدول الأعضاء. وفي السودان مثلا حدثت هذه التغيرات للصتدوق في تقديرات الزيادة لمعدل النمو في الاقتصاد السوداني في العام 2000 من 6.5% حسب تقديرات سابقة للبعثة الي 7.2% بعد زيارة لبعثته مرة أخرى آنذاك. فيما يلي توقعات صندوق النقد الدولى بمجريات الناتج المحلي للعام 2026، حسب ما يوضحة الجدول التالي، علما بأن السودان أصبح الآن ضمن مجموعة دول الشرق الأوسط وأواسط آسيا، بعد أن كان مصنفعا ضمن دول أفريقا وراء الصحراء.
الناتج المحلي الاجمالي 2023، 2024 وتوقعات 2025 و2026.
المتغير/ الأعوام |
2023 |
2024 |
2025 |
2026 |
الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية، مليار دولار |
28.27 |
31.51 |
||
معدل نمو hلناتج المحلي الاجمالي الحقيقي، مليار دولار. |
20.8- |
23.4- |
-0.4 |
+8.8 |
معدل التضخم (من سنه لأخرى) % |
77.25% |
200.1% |
118.93% |
23.42% |
متوسط دخل الفرد (الف دولار أمريكي) |
3.06 |
2.34 |
2.34 |
2.53 |
المصدر : صندوق النقد الدولى، أفاق الاقتصاد العالمي، 11 أبريل 2025.
https://www.statista.com/statistics/727148/inflation-rate-in-sudan/
من الجدول أعلاه انخفض الناتج المحلي بالاسعار الجارية بين العامين 2023 و 2024 بمعدل (-23.6%)، ومن المتوقع أن يسجل ارتفاعا بنسبة (11.5%) بين العامين 2024 و 2025 . وتشير البيانات أعلاه أن توقعات معدل النمو للناتج المحلي بسعر السوق بين الأعوام 2025 و 2026 (15.4%) متأثرا بارتفاع الأسعار أكثر من زيادة الانتاج . الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي سجل نموا سالبا في 2023 (بنسبة سالب 20.3%) وكذلك في 2024 (سالب 23.4%). بنهاية العام الجاري يتوقع الصندوق أن ينخفض النمو الحقيقي ليصل الي نسبة ( سالب 0.4%) متأثرا بتوقعات معدل تضخم عالي بلغ (118%) خلال العام الجاري . توقعات النمو في 2026 ايجابية (+ 8.8%) . وبالمقارنة مع التوقعات المرجعية للنموء العالمي من بيانات للصندوق حتى 4 أبريل2025 أن ينخفض النمو العالمي إلى 2.8% في عام 2025 و3% في عام 2026، (تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، 11 أبريل، 2025). هذا النمو العالي في السودان مقارنة بالمتوسط العالمي ربما لسببين الأول التوقعات بانخفاض معدل التضخم من 118% الي 23% فقط والثاني التوقع بانتهاء الحرب واستئناف نشاط الاقتصاد، خاصة في القطاع الزراعي وقطاع النفط والاستثمار والمباني والتشييد. أخيرا، وعلى الرغم من التوقعات الجيدة للنمو الا أن توقعات متوسط دخل الفرد في السودان انخفض بعد الحرب ولازال وسيظل في العام القادم متأرجحا الى ما دون الرقم الذي حققه في 2023 نتيجة لتأثير الحرب على مستوي الدخول والانتاج.
في الحقيقة وكاقتصادي متابع لتقارير البنك وصندوق النقد الدوليين منذ بداية التسعينات لم أتفاجأ بهذا النمو المتوقع في العام القادم، لأن معدلات النمو مابعد الحروب في كل الدول تظل عالية، لأسباب من بينها الاستقرار الاقتصادي بعد الحرب وتدفق المواردعلى الاقتصاد من الخارج وتوقعات اعادة الاعمار في كل المجالات . هذا الحراك في النشاط الاقتصادي أتوقع أن يكون غير مسبوق، الا بالمقارنة مع بداية الألفية حيث أثر وقتها تدفق النفط على البنية التحتية وارتفاع أسعاره عالميا وحراك النشاط الاقتصاد في كل القطاعات. ارتفع الناتج المحلى الإجمالي الحقيقي بنسبة 8% في 2005 مقابل 5.2 % في 2004، مقارنة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي حققت نسبة نموء وقتها بلغ 5.4% حسب تقرير صادر عن بيت الاستثمار العالمي، جلوبل. من الجانب الاقتصادي أنظر لهذا النمو الكبير المتوقع في العام القادم نظرة تفاؤل. أولا بأنه نمو حقيقي لم يتأثر بمجريات التضخم العالية التي ظلت خلال فترة الحرب. وثانيا أنه يعني عودة الاقتصاد لمساره القديم.
النمو المرتفع المتوقع للناتج المحلي الإجمالي للسودان في عام 2026، يعكس انتعاشا محتملا في قاعدة الاقتصاد الضعيفة مدفوعا باعادة اللاعمار وتنشيط القطاعات الرئيسية بعد سنوات من الانكماش الاقتصادي الحاد الناجم عن استمرار الحرب .ويعتمد هذا النمو المتوقع على استعادة السلام والاستقرار، مما سيُمكّن من استئناف الأنشطة الاقتصادية وجهود إعادة الإعمار . و من المتوقع ضخ استثمارات كبيرة في إعادة بناء البنية التحتية وأنظمة الرعاية الصحية والتعليم.وسيؤدي لتحفيز قطاعات اقتصادية مختلفة إلى زيادة فرص العمل والنشاط الاقتصاد وانعاش القطاعات الرئيسية كالزراعة والتصنيع والذهب والنفط وتشغيل خطوط أنابيب النفط والتعدين وتطوير الأنظمة المالية والمصرفيه والشمول المالي بالاضافة لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي سيوفر رأس المال والتكنولوجيا والخبرة.
لكنني في نفس الوقت لا أعتبره زيادة تراكمية في النمو الاقتصادي بالبلاد، بل فقط تعويضاً للخسائر التي جاءت من جراء الحرب وليس زيادة في الانتاج مقارنة بالسنوات التي سبقت الحرب. والدليل أن توقعات قيمة الناتج المحلي الاجمالي بسعر السوق حتي في ظل النمو الكبير المتوقع في 2026 (36.36 ملبار دولار) ستظل اقل من نتيجة العام 2023 ( 37.00 مليار دولار). باختصار خصمت الحرب من معدلات النمو التراكمي للاقتصاد السوداني على أمل التعويض في مقبل السنوات. ومهما يكن من أمر أتمني أن تتحقق توقعات الصندوق وان يستمر الاقتصاد في النمو بوتيرة كبيرة ما بعد الحرب. لكن تحقيق هذا الهدف له متطلبات من أهمها اعادة النظر في الاقتصاد وسياساته الحكومية المشجعة للانتاج، خاصة الزراعي وحوكمة الاقتصاد ومؤسساته على أسس جديدة كليا والانصراف نحو العمل والبناء ليتحقق زيادة الانتاج الحقيقي من السلع والخدمات.