السودان ومصيرية التخطيط الاستراتيجي: نحو مجلس وطني يضبط بوصلة الدولة
د. عبد العزيز الزبير باشا
في مرحلة كالتي يمر بها السودان اليوم — حيث تختلط نيران الغدر الداخلي بأطماع الخارج، وتتقاطع مصالح القوى الدولية والإقليمية على جسد وطن جريح لكنه لم ينكسر — لا تملك الدولة ترف العشوائية، ولا رفاهية ردود الأفعال. بل إن بقاء الدولة ذاتها، كوحدة سياسية ومجتمعية، مرهون بوجود عقل مؤسسي دائم، يعمل على قراءة المعطيات، وتحليل المتغيرات، وصياغة البدائل، بما يتجاوز دورة الحكومة إلى دورة الدولة..
من هنا تبرز، وبقوة، ضرورة إنشاء مجلس وطني دائم للتخطيط الاستراتيجي، يُشكّل أحد الأعمدة السيادية الجديدة في بنية الدولة السودانية، ويؤسس لتحول نوعي في منهج التفكير والتصرف، ليس كرد فعل، وإنما كفعل مسبق، مبني على وعي كامل بسيناريوهات المستقبل وتحديات الإقليم.
*أولاً:*
الحاجة البنيوية
التخطيط الاستراتيجي ليس مسارًا تنموياً فقط، بل هو وظيفة سيادية، تضاهي في أهميتها وظائف الأمن والدفاع، لا سيما في الدول الخارجة من الحرب أو الواقعة تحت تهديد وجودي. السودان اليوم يقاتل على أكثر من جبهة:
• جبهة عسكرية ضد تمرد إرهابي مدعوم خارجيا..
• جبهة اقتصادية في ظل حصار ضمني، وعقوبات سياسية غير متوازنة…
• وجبهة سياسية وإدارية تبحث عن بناء مؤسسات شرعية وكفؤة.
إن غياب التخطيط المتكامل في هذه المرحلة يجعل الدولة عُرضة للتفكك الداخلي والارتهان الخارجي. وهذا ما يدركه أعداء السودان قبل أصدقائه، وهو ما يفسر حرص بعض القوى الإقليمية على إبقاء السودان في حالة رد فعل دائم، دون أن يُمنح فرصة للاستقرار والتصميم الاستراتيجي….
*ثانياً:*
السياق الإقليمي والدولي
السودان ليس دولة معزولة عن محيطها، بل هو اليوم محور استراتيجي بالغ الأهمية في توازنات البحر الأحمر، والأمن الغذائي العربي، والطاقة المستقبلية، فضلاً عن كونه عقدة برية بين القرن الإفريقي وشمال إفريقيا. في ظل هذه المعادلة:
• تتحرك قوى إقليمية من أجل رسم خرائط نفوذ جديدة، ليس فقط بالأدوات العسكرية، بل بأدوات الاستثمار والمساعدات المسمومة.
• وتتنافس دول كبرى على فرض أجندات تحت غطاء “ *الإنقاذ الإنساني* ”، في حين أن السودان ضحية مشاريع صامتة لإعادة تشكيل جغرافيته الديموغرافية.
من هنا فإن وجود مجلس وطني للتخطيط الاستراتيجي سيكون أداة تحصين ضد الوقوع في شرك المبادرات المضللة، كما سيكون غرفة عمليات فكرية تراقب وتعيد توجيه السياسات الوطنية في ضوء المصالح العليا، لا في ضوء الإملاءات الآنية…
*ثالثاً:*
التفويض الوطني والشرعية الاستشارية
إذا كان الشعب السوداني قد وحّد إرادته خلف *الجيش الوطني* وفخامة الرئيس الفريق أول ركن *عبد الفتاح البرهان* ، فإن من حق هذه الإرادة أن تُترجم إلى مؤسسات قادرة على ضمان الاستمرارية والتفوق. ويأتي هنا دور التخطيط الاستراتيجي كمجال لا يخضع للمحاصصات، بل للكفاءة والرؤية والدراية الجيوسياسية….
إن مجلسًا وطنيًا دائمًا — يتكون من خبراء مختارين بعناية في مجالات الاقتصاد، الأمن القومي، الجغرافيا السياسية، الطاقة، التعليم، وإدارة الموارد — سيكون بمثابة مرجع فكري سيادي للدولة، يُنير طريقها وسط الضباب، ويمنحها ميزة التنبؤ بدلًا من الوقوع في فخ المفاجآت.
*رابعاً:*
مقترحات مبدئية دون تفصيل
مع التأكيد على أن الأفكار التفصيلية لا تُطرح في هذا السياق العام، تجدر الإشارة إلى بعض المرتكزات التي يمكن أن تشكل الخط العام للمجلس المقترح:
*1* . *مأسسة الرؤية الوطنية:*
تحويل شعار “السودان أولاً وأخيرًا” إلى خطة متكاملة تُترجم إلى سياسات تنفيذية.
*2* *. رصد التهديدات الصامتة:*
من مشاريع التوطين والتهجير، إلى المعارك القانونية في المحافل الدولية.
*3* *. دعم الجبهة الداخلية:*
عبر رؤية اقتصادية بديلة تخرج من عباءة وصفات المؤسسات الدولية المسمومة.
*4* *. تعزيز العمق الإقليمي* :
بقراءة الواقع الجيوسياسي بعيون سودانية، لا بعيون الوكالات الأجنبية.
*في الختام:*
إن تأسيس مجلس استراتيجي سيادي ليس خيارًا فكريًا ولا ترفًا إدارياً، بل هو ضرورة بقاء، وأحد الشروط الأساسية لانتصار الدولة السودانية في معركتها الشاملة ضد مشروع الغدر والتقسيم. وقد آن الأوان لأن ندرك أن المعارك لا تُحسم فقط بالسلاح، بل بالعقل، والقراءة المسبقة، والرؤية الثاقبة، ومَن لا يخطط، سيُخطط له….
جيش واحد… شعب واحد… رؤية واحدة…
وطن ومؤسسات… السودان أولاً وأخيرًا…..