قطاع التأمين السوداني.. من ركام الحرب إلى فجر التعافي
بقلم: محمد يوسف العركي
باحث في استراتيجيات المعرفة
بعد أكثر من عامين وثلاثة أشهر على اندلاع الحرب في السودان (أبريل 2023 – يوليو 2025)، لا يزال الاقتصاد السوداني يرزح تحت وطأة أزمة عميقة، تفاقمت بفعل التدمير الممنهج الذي مارسته المليشيا في كافة مناحي الحياة في السودان. كان قطاع التأمين، الذي يُعد شريانًا حيويًا للإنتاج ومحركًا رئيسيًا للقطاعات الصناعية والزراعية والخدمية، من بين الأكثر تضررًا، ما أثر بشكل بالغ على حركة الصادرات والواردات.
حجم الدمار وتداعياته الاقتصادية
الخسائر الاقتصادية فادحة؛ تتراوح التقديرات الرسمية بين 108.8 و200 مليار دولار أمريكي، بينما تشير تقديرات مستقلة إلى أن الرقم قد يصل إلى تريليون دولار. وقد شهد الناتج المحلي الإجمالي انكماشًا بنسبة 29.4% في عام 2023، ثم 13.5% في عام 2024، بينما ارتفع معدل التضخم إلى 170%.
تضررت القطاعات الحيوية بشكل مباشر، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقطاع التأمين:
* القطاع الزراعي: دُمّر 65% منه، وهو الذي يوظف 80% من القوى العاملة، وفقدت البلاد موسمين زراعيين.
* القطاع الصناعي: لحقه دمار بنسبة 75% نتيجة النهب والحرق والتفكيك، خاصة في ولاية الخرطوم.
* القطاع الخدمي: تضرر بنسبة 70%.
* قطاع النفط والطاقة: قُدرت خسائره بنحو 20 مليار دولار، شملت السرقة، وتخريب المنشآت ،والحقول والمستودعات.
* البنية التحتية: دُمر 60% منها، وخرجت عدة ولايات إنتاجية بالكامل من الدورة الاقتصادية، مثل مناطق إنتاج البترول، والذهب، والصمغ العربي والماشية.
قطاع التأمين في عين العاصفة
تؤثر هذه الأرقام والمؤشرات بشكل مباشر على شركات التأمين السودانية. حتى الآن (يوليو 2025)، لا توجد تقارير رسمية شاملة من الجهاز القومي للرقابة على التأمين توضح الحجم الحقيقي للأضرار التي لحقت بهذه الشركات. وقد أُفيد مؤخرًا بتشكيل لجنة من قبل اتحاد شركات التأمين لحصر الخسائر.
منذ أبريل 2023، أدرج سوق التأمين البحري في لندن السودان ضمن المناطق عالية المخاطر، ما نتج عنه:
* زيادة تكاليف التأمين البحري: تتطلب أي سفن تبحر من وإلى السودان أقساط تأمين إضافية لمخاطر الحرب وموافقة خاصة من شركات التأمين، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة الواردات.
* تأمين الطيران: زادت أقساط التأمين ضد الحرب بأكثر من 1000%، ما انعكس بوضوح على أسعار تذاكر الطيران، بالإضافة إلى انهيار العملة المحلية.
* تقلص التأمين الطبي: تأثرت خدمة التأمين الطبي بشدة بسبب تدمير البنى التحتية للمستشفيات الخاصة في المدن المتأثرة، وخروج العديد من المؤسسات والشركات المستفيدة من الخدمة.
عمومًا، يمكن تلخيص الآثار على قطاع التأمين كالتالي:
* انخفاض حاد في حجم الاكتتاب.
* فقدان جزء كبير من الأقساط الآجلة المستحقة.
* تحديات كبيرة في إعادة التأمين والتعامل مع المعيدين والتحويلات المالية.
* تآكل كبير في قيمة أصول الشركات نتيجة انهيار العملة المحلية وتضرر العقارات المملوكة لشركات التأمين في الولايات المتضررة.
* تأثر العاملين: تعمل الشركات بأقل عدد من الموظفين، ما ترك عددًا كبيرًا منهم بلا عمل أو رواتب لشهور طويلة، مخلفًا آثارًا نفسية ومعنوية عميقة.
فجر التعافي: فرص لإعادة البناء
مع الانتصارات المتتالية للقوات المسلحة وبدء مظاهر عودة الحياة، يظل الأمل حاضرًا في تعافي قطاع التأمين السوداني، رغم التحديات الهائلة. هناك فرص حقيقية للتعافي وإعادة البناء يمكن الإشارة إليها:
1. استعادة الثقة ومعالجة ملف التعويضات
* الشفافية في التعويضات: يجب على شركات التأمين أن تكون شفافة تمامًا مع حاملي الوثائق بخصوص التعويضات المستحقة لبناء الثقة المفقودة.
* آليات تعويض سريعة وفعالة: تطوير آليات واضحة ومبسطة لتقديم المطالبات وتقييم الخسائر وصرف التعويضات، مع مراعاة الظروف الاستثنائية.
* صناديق دعم حكومية: إنشاء صناديق لدعم شركات التأمين في سداد التعويضات الكبيرة أو تقديم ضمانات حكومية لبعض المطالبات.
2. تعزيز الملاءة المالية وإعادة الهيكلة
* ضخ رؤوس أموال جديدة: ضرورة ضخ رؤوس أموال جديدة لتعزيز ملاءة الشركات وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها.
* الدمج والاستحواذ: قد يكون دمج الشركات الصغيرة أو الضعيفة حلاً لتقوية القطاع وزيادة كفاءته.
* دعم معيدي التأمين: التفاوض مع معيدي التأمين الدوليين للحصول على شروط مواتية ودعم فني ومالي لمرحلة التعافي.
* استغلال الأصول: إعادة تقييم وإدارة الأصول العقارية المتبقية للشركات واستغلالها بشكل فعال لتعزيز السيولة.
3. مراجعة شاملة للإطار التنظيمي والتشريعي
* تحديث قانون التأمين: مراجعة وتحديث قانون التأمين السوداني ولوائح الجهاز القومي للرقابة لتتوافق مع التحديات والفرص الجديدة.
* معايير جديدة لتقييم المخاطر: تطوير معايير جديدة لتقييم المخاطر وتحديد الأقساط بناءً على دروس الحرب.
* تعزيز دور الجهاز القومي للرقابة: تعزيز استقلالية وقدرات الجهاز لضمان الرقابة الفعالة وحماية حقوق المؤمن لهم.
4. دور القطاع في الإعمار والتنمية
* تطوير منتجات تأمينية مبتكرة: تصميم منتجات جديدة تلبي احتياجات مرحلة الإعمار، مثل التأمين على الممتلكات المتضررة، ومشاريع إعادة الإعمار، وتأمين القروض للمتضررين.
* الشراكة مع الجهات المانحة: التعاون مع المنظمات الدولية والمانحين لتقديم حلول تأمينية مدعومة للمتضررين.
* دعم القطاعات الحيوية: المساهمة في تأمين القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية الأساسية لإعادة بناء الاقتصاد.
* نشر الثقافة التأمينية: تكثيف حملات التوعية بأهمية التأمين ودوره في حماية الأفراد والممتلكات، خاصة بعد تجربة الحرب.
* تدريب وتطوير الكفاءات: الاستثمار في تدريب وتطوير الكوادر البشرية لتواكب التطورات وتلبي احتياجات مرحلة ما بعد الحرب.
خاتمة
إن تعافي قطاع التأمين السوداني بعد هذه الحرب المدمرة ليس مجرد تحدٍ مالي وإداري، بل هو معركة لاستعادة الثقة، وبناء القدرات، وتطوير رؤى مبتكرة. يجب أن يكون هذا القطاع شريكًا فاعلًا في عملية الإعمار الشاملة ورافعة أساسية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في السودان. يتطلب ذلك تضافر الجهود من جميع الأطراف—الحكومية والخاصة والدولية—لضمان مستقبل أفضل لهذا القطاع الحيوي وللشعب السوداني.
للتواصل: arakidoha@yahoo.com
…..نقلا عن صحيفة الأحداث السودانية……..